7. يبدو ان صورته عن الأشياء تتركب من الأفكار التي لدينا عن أشياء أخرى ابسط، هي موجودة حقاً.
ومع ان هذه الأشياء العامة (اعني الجسم، والعينين، والرأس، واليدين، وما شابه) هي أشياء خيالية، فمن الواجب ان نعترف رغم ذلك، قياساً على ما تقدم، بوجود أشياء أخرى ابسط منها واشمل، هي موجودة حقاً. من امتزاجها، على نحو ما، تخرج بعض الألوان الحقيقية، فيتكون كل ما يقوم لدى فكرنا من صور الأشياء، سواء كانت هذه الصور حقيقية واقعية، أو مختلقة وهمية. من هذه الأشياء المتمددة وكمها أو مقدارها، وعددها. وكذا الحيز الذي هي فيه، والزمان الذي تدوم به، وما شابه.
8. ان العلوم، التي تدور على هذه الأشياء، تضم حقائق يظهر انه لا يمكن الشك فيها.
لعلنا غير مخطئين، إذن، في الاستنتاج ان علوم الطبيعة، والفلك، والطب، وسائر العلوم الأخرى، التي تدور على الأشياء المركبة، هي عرضة لشك قوي. ان الثقة بها قليلة. اما الحساب، والهندسة، وما شاكلهما من العلوم، التي لا تنظر الا في أمور بسيطة جداً، وعامة جداً، دون اهتمام كثير بمبلغ تحقيق هذه الأمور في الخارج، أو عدم تحقيقها، فهي تحتوي على شيء يقيني، لا سبيل إلى الشك فيه. فسواء كنت يقظاً أو نائماً، هنالك حقيقة ثابتة، وهي ان مجموع اثنين وثلاثة هو خمسة دائماً، وان المربع لن يزيد على أربعة أضلاع أبداً. ان حقائق قد بلغت هذه المرتبة من الوضوح، لا يمكن ان تكون موضع خطأ، أو عدم يقين.
9. في الأسباب التي تدفعنا رغم هذا إلى الريبة من حقيقة تلك الأشياء.
مع ذلك فقد رسخ في ذهني، منذ زمن طويل، معتقد فحواه ان هنالك إلهاً قادراً على كل شيء، هو الذي خلقني وصنعني على نحو ما أنا موجود. فما يدريني؟ لعله قضى ان لا يكون هناك ارض، ولا سماء، ولا جسم ممتد، ولا شكل، ولا مقدار، ولا حيز، ودبر مع ذلك ان أحس بهذه الأشياء، جميعاً، فتبدو لي كائنة على غرار ما أراها؟ ثم لما كنت أرى، أحياناً، كيف ان الآخرين يغلطون في الأمور، التي يحسبون انهم اعلم الناس بها فما يدريني، لعله قدر لي ان اغلط، أنا أيضاً، كلما جمعت اثنين وثلاثة، أو أحصيت أضلاع مربع ما، أو أطلقت حكماً على شيء اسهل من ذلك، ان كان ثمة شيء اسهل؟ لكن اما قيل عن الله انه كريم رحيم؟ لعله لم يرد تضليلي على هذا النحو؟ فإذا كان مما يتنزه عنه الله ان يكون قد خلقني عرضة للخطأ، دائماً، فمما لا يليق بمقامه ان يأذن بوقوعي في الخطأ أحياناً. واني على يقين ان هذا لا يقع بإذنه.
10. إذن لا يوجد شيء غير ممكن ان نشك فيه إلى حد ما.
قد نعثر على أناس يميلون إلى إنكار وجود اله ذي قدرة كهذه القدرة، اكثر مما يميلون إلى الاعتقاد بان كل الأشياء الباقية هي عارية من اليقين. لا نريد الآن ان نعارض هذا الرأي. لنقف بجانبهم مسلّمين معهم ان الذي قيل هنا عن اله ما هو الا حديث خرافة. ولكن، مهما تكن الوجوه التي يعتمدون عليها، لتفسير ما وصلتُ إليه من حال وكيان (سواء أعادوهما إلى القضاء والقدر، أو عزوهما إلى المصادفة، أو أرجعوهما إلى سلسلة من العلل والمعلولات، أو إلى أي سبب آخر) فان قدرة الصانع، الذي يجعلونه علة لوجودي تنقص، ما دام الخطأ والضلال نوعاً من أنواع النقص، بقدر ما انقص أنا فأتعرض للضلال دائماً. ليس عندي ما أجيب عن حججهم. الا انه لا مناص لي من الاعتراف بان كل الآراء التي حسبتها من قبل حقاً، أستطيع ان أشك فيها بطريقة ما. يمكنني الآن، ان ارتاب من أي رأي، لا بطيش ورعونة، وإنما بفضل أدلة ناضجة قوية جداً. لذا ينبغي لي، إذا أردت الاهتداء إلى أمر ثابت أكيد في العلوم، ان امتنع عن تصديق ما يمكن الشك فيه، امتناعي عن تصديق ما يتضح فيه الخطأ اتضاحاً شديداً.
11. في انه لا يكفي ان نبدي هذه الملاحظات، وإنما يجب حفرها في أعماق أذهاننا.
ذلك لان الفائدة لا تأتي فقط من اعتبار آرائنا القديمة قابلة للشك، بل أيضاً من افتراضها خاطئة. لا خطر ولا ضلال في إتباع هذا المسلك.
ولكن لا يكفي ان ابدي هذه الملاحظات، بل ينبغي لي أيضاً ان أوطدها في ذاكرتي، لأن الآراء القديمة، المألوفة، تعاودني بين الفينة والفنية. ان طول ألفها لي جعلها تشغل ذهني قسراً، وتتحكم تقريباً بمعتقدي. الا انني سأحترمها ... ما دمت أراها في واقعها، اعني في انها مدعاة للشك، من بعض الوجوه، كما ابنته الآن. مع ذلك هي محتملة كثيراً، مما يجعل التصديق بها أصوب من إنكارها. لذا أكون حكيماً إذا تعمدت موقفاً معاكساً، فاكذب نفسي، إذ افترض إلى حين ان جميع الآراء باطلة خيالية، ريثما يتيسر لي ان أوازن بين القديمة والجديدة. وهكذا لا يميل رأي إلى جانب دون جانب، ولا تسيطر التقاليد الخاطئة على حكمي، فيشتط عن الطريق المستقيم، الذي يقدر ان يرشدني إلى معرفة الحقيقية. أنا واثق انه لا خطر في إتباع هذا المسلك، ولا ضلال. مهما أبالغ في الحذر فلن أكون مسرفاً، لأن مطلبي الآن ليس العمل وإنما التأمل والمعرفة.
12. ما هي الافتراضات، التي يجب ان نفترضها، وكيف ينبغي لنا ان نستخدمها.
سأفترض إذن ان لا إلهاً حقاً (الذي هو مصدر الحقيقة الأعلى) بل ان شيطاناً سيئاً، لا يقل خبثه ومكره عن بأسه، قد استعمل كل ما أوتي من حنكة لتضليلي. وسأفترض ان السماء، والهواء، والأرض، والألوان، والأشكال، والأصوات، وسائر الأشياء الخارجية التي نرى، ليست الا أوهاماً وخيالات، يلجأ إليها الشيطان كي يقنعني. وسأفترض اني خلو من العينين واليدين واللحم والدم والحواس، التي أتوهم خطأ اني املكها جميعاً. وسأتشبث بهذه الافتراضات التي، ان لم أتمكن بها من الوصول إلى معرفة أي حقيقة، تدفعني على الأقل ان أتوقف عن الحكم. لذا سأحذر كثيراً من التسليم بما هو باطل. سأواجه كل الحيل التي يعمد إليها ذلك المخادع الكبير، حتى لا يتمكن (مهما يكن بأسه ومكره) ان ينيخنيلشيء أبداً.
13. في ان تحقيق هذا المطلب صعب للغاية.
لكن هذا المطلب شاق كثير العناء. وشيء من الكسل يجرفني، دون شعور مني، في سياق حياتي العادية. مثلي هنا مثل عبد يتلذذ في المنام بحرية موهومة. وإذ فطن إلى ان حريته ليست غير أضغاث أحلام، خاف ان يصحو من نومه، فطاب له ان يمالئ هذه الأوهام اللذيذة، ليطول أمد انخداعه بها. كذلك حالي: انجرف من تلقاء ذاتي، ودون وعي مني، في تيار آرائي القديمة، ولا أريد ان أصحو من غفوتي هذه، خشية ان أجد، بعد الراحة الهادئة، اليقظة الشاقة التي، بدل ان تجلب لي قليلاً من الوضوح والنور في معرفتي للحقيقة، تبان عاجزة عن تبديد كل ظلمات المصاعب الناشئة.